أمّا بعدُ فقد روى مُسلم والبيهقي والترمذي أنّ رسُول اللهِ قال : "إنّ الإِسلام بدأ غريبًا وسيعودُ غريبًا كما بدأ فطُوبى لِلغُرباء"، قيل: ومن هُمُ الغُرباءُ يا رسول الله، قال: " الّذين يُصلِحون مِن سُنّتي ما أفسد النّاسُ"، وسنّةُ الرّسُولِ في الحديث هي شريعتُهُ ، أي العقِيدةُ والأحكامُ.
ومعنى بدأ الإِسلامُ غرِيبًا أنّ المُسلِمِين كانُوا مُضطهدِين فِى مكّة بِأنواعٍ مِن الأذى حتّى إِنّهُم مرّةً أكرهُوا ثلاثةً مِن مشاهِيرِ الصّحابةِ على الكُفرِ فامتنع اثنانِ وقال الثّالِثُ ما أرادُوا مِنهُ لِيُنقِذ نفسهُ فمعنى غرابةِ الإِسلامِ فِى أوّلِهِ فِى أوّلِ بِعثةِ النّبِىِّ هُو أنّ المُسلِمِين كانُوا يُضطهدُون مِن قِبلِ أعدائِهِمُ الكُفّارِ فِى أوّلِ بِعثةِ النّبِىِّ ثُمّ لم يزالُوا مُضطهدِين حتّى هاجر رسُولُ اللّهِ بِإِذنٍ مِن اللّهِ.
الرّسُولُ ﷺ قد أُوذِى كثِيرًا ضُرِب بِأيدِى الكُفّارِ حتّى إِنّهُ بعض المرّاتِ غُشِى عليهِ ﷺ وأمّا أصحابُهُ فكان البلاءُ فِيهِم شدِيدًا جِدًّا، عمّارُ بنُ ياسِرٍ أُمُّهُ قتلها أبُو جهلٍ لِأنّها أسلمت بِحربةٍ طعن بِها في قُبُلها كذلِك ياسِرٌ والِدُ عمّارٍ رضِى اللّهُ عنهُم نالهُ أذًى كبِيرٌ مِن الكُفّارِ وقتلُوهُ. فالحاصِلُ أنّ الِاضطِهاد كان يُصِيبُ المُسلِمِين فِى أوّلِ بِعثةِ النّبِىِّ ﷺ وكان قِسمٌ مِنهُ بِالفِعلِ وقِسمٌ مِنهُ بِالقولِ بِالشّتمِ والإِهانةِ ثُمّ بعد الهِجرةِ قوِى المُسلِمُون فلم يُتوفّ رُسُولُ اللّهِ ﷺ إِلّا وقد فتح الجزِيرة العربِيّة مع اتِّساعِ مسافتِها فالرّسُولُ أخبر بِأنّهُ سيعُودُ هذا الِاضطِهادُ بعد قُوّةِ الإِسلامِ وظُهُورِهِ فالآن فِى وقتِنا هذا تحقّقت غُربةُ الإِسلامِ أليس ترون أنّ المُتكلِّم بِالحقِّ المُوافِقِ لِكِتابِ اللّهِ وسُنّةِ نبِيِّهِ يُضطهدُ ويُشتمُ ويُؤذى ويُسفّهُ كالّذِى يُكفِّرُ من سبّ اللّه تعالى فِى حالِ غضبٍ أو حالِ مزحٍ فإِنّ كثِيرًا مِن النّاسِ يُنكِرُون عليهِ الحقّ بأنّ سبّ اللّهِ كُفرٌ فِى حالِ الجِدِّ والمزحِ والغضبِ. وكذلِك إِنكارُهُم لِتركِ مُصافحةِ الرّجُلِ المرأة الأجنبِيّة مع أنّ الرّسُول وأصحابهُ ومن تبِعهُ بِإِحسانٍ لم يُصافِحُوا النِّساء الأجنبِيّاتِ قطُّ ولم يقُل أحدٌ بِحِلِّهِ إِن كان لِطلبِ التّلذُّذِ وإِن كان لِغيرِ ذلِك.
وهُناك أمثِلةٌ كثِيرةٌ أُخرى مِمّا يُضطهدُ بِهِ المُسلِمُون المُتمسِّكُون بِدِين اللّهِ. وأمّا قولُهُ عليهِ الصّلاةُ والسّلامُ فطُوبى لِلغُرباءِ فهُو عليهِ السّلامُ قد فسّرهُ بِقولِهِ الّذِين يُصلِحُون ما أفسد النّاسُ مِن سُنّتِى بعدِى، وفي هذا الحديثِ بِشارةٌ لِمن يتمسّكُ في هذا الزّمنِ الّذي فسدتِ الأُمّةُ فِيهِ بِسُنّةِ الرّسُولِ، أي شرِيعتِهِ وهي العقيدة والأحكام. بأن يتعلمها بإخلاص وصدق والعمل بها ونشرها بإخلاص وصدق، وثواب العامل بالدعوة عظيم، معناهُ الآمِرُون بِالمعرُوفِ النّاهُون عنِ المُنكرِ بِجِدٍّ الّذين يُصلِحُون ما أفسد النّاسُ مِن الشّرِيعةِ قد بشره الرسول بقوله "فطوبى للغرباء" فهذا الزّمنُ زمانُ غُربةِ الإِسلامِ نسألُ اللّه تعالى أن يجعلنا مِن الّذِين يُصلِحُون ما أفسد النّاسُ.
وقد قال النووي في شرح مسلم: وقولُهُ ﷺ بدأ الإِسلامُ غرِيبًا وطُوبى فُعلى مِن الطِّيبِ وأمّا معنى طُوبى فاختلف المُفسِّرُون فِي معنى قولِهِ تعالى {طوبى لهُم وحُسنُ مآب} فرُوِي عن ابن عبّاسٍ رضِي اللّهُ عنهُما أنّ معناهُ (فرحٌ وقُرّةُ عين) وقال عِكرِمةُ : (نِعم ما لهُم) وقال الضّحّاكُ : (غِبطةٌ لهُم) وقال قتادةُ :(حُسنى لهُم) وعن قتادة أيضًا (معناهُ أصابُوا خيرًا) وقال ابراهيم (خير لهم وكرامة) وقال ابن عجلان :(دوامُ الخيرِ) وقِيل (الجنّةُ) [والمراد الفوز بالجنة] وقِيل (شجرةٌ فِي الجنّةِ) وكُلُّ هذِهِ الأقوالِ مُحتملةٌ فِي الحدِيثِ فيكون المعنى خير عظيم لمن تمسك بالدين في زمن غربة الإسلام وهو زماننا هذا.
فاليوم كثُر المُخالِفون والمُنحرِفُون عن سُنّةِ الرسولِ أي عن شريعةِ الرّسولِ في العقيدةِ والأحكامِ، أمرٌ ظاهر أنّ أكثر الناس فسدوا، قسم منهم بفساد العقيدة حتى خرجوا من الإسلام، وقسم فسدوا من غير الخروج من الإسلام بانحرافهم عن أحكام الشريعة وعملهم بالأحكام المخالفة للشريعة.
الآن بيننا أناس يهدمون الشريعة باسم الدعوة إلى الإسلام، وهم الوهابية وحزب سيد قطب وحزب التحرير ثم إلى جانب هؤلاء الفرق الثلاث فرقة تدّعي التصوّف والطريقة وأكثر هؤلاء فسادًا هم المنتسبون إلى الطريقة الشّاذلية التي هي أصلها من طرق أهل الله الصحيحة، فيجب مكافحة هذه الضلالات بالأدلة والحجج الشرعية.
هؤلاء الذين يهدمون الشريعة باسم الدعوة إلى الإسلام خطرهم كبير، هؤلاء خفافيش الظلام التي تعمل في السر لتخرب في العلانية ويعملون بمِعولٍ من خلف المسلمين ويحاولون هدم الإسلام وردم حقيقته وطمسه وتحريف الحق وتضليل الناس إلا من عرف طريق الحق.
فالذي يصير به الإسلام غريبا عن أهله هو أن ما حُسِم من أمور الأصول وثوابت النصوص والقطعيات التي لا اجتهاد فيها ولا اختلاف منذ أن كان عهد الصحابة والتابعين من المسائل المحسومة صار بالأمس عند شرذمة كهؤلاء من المنتسبين للإسلام فيه أقوال أو خلاف أو بعضهم بدعوى تفريق الصف يقول لا نريد أن نفرق الصف فيقبلون ما يقول هؤلاء، وكيف تكون فرقة الصف عند هؤلاء وهو بخلافه عن أهل السنة في العقيدة يستحلون دماء المسلمين، بئس هؤلاء القوم الذين استبدلوا دين الله بدعوى وحدة الأمة وعدم فرقة الصف.
الله سبحانه وتعالى سمى هذه الأمة أمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. وإن أمرنا بالمعروف أو نهينا عن منكر تسمع إنكار الناس لنا بدلا من عونهم فعندها تجد نفسك غريبا وقد صدق رسول رب العالمين فطوبى للغرباء، وحين تحذر من الكفر تسمع إنكار الناس بدلا من عونهم وبعضهم يقول لا نريد تفرقة الصف فتجد نفسك غريبا وقد صدق رسول رب العالمين فطوبى للغرباء، وحين تحذر من رؤوس الفتنة ومشايخ الضلال تسمع إنكار الناس بدلا من عونهم وبعضهم يقول لا نريد تفرقة الصف فحينها تجد نفسك غريبا وقد صدق رسول رب العالمين فطوبى للغرباء.
وقد خطر لِى أنّه كان الشائع فِى الماضِى وما زال فِى بعض البلاد القليلة أن يحفظ الطفل وهو صغير قبل التمييز أحيانًا عقيدة العوامِّ للشيخ أحمد المرزوقِىّ أو ما يماثلها فيرددها صغيرًا وبعد ذلك كبيرًا فِى أحواله المختلفة حتى عند الحصاد فِى الحقل، وكان يُحصِّل بذلك العقائد السنية حفظًا فِى الصغر لتنكشف له شيئًا فشيئًا بعد ذلك مع زيادة فهمه وشرح الشيوخ له فينشأ وكأنه مطبوع عليها مُتخلِلةٌ جسمهُ وقلبه فلا يسهل بعد ذلك حرفُهُ عنها وإبعاده منها وأما اليوم فيسمع فِى هذه المدارس الدنيوية العصرية عقائد عجيبة غريبة تحويها الكتب والمناهج ويلقيها المعلمون والمعلمات وتصادف من الطفل قلبًا فارغًا لم يسبق فِى البيت ملؤه بعقيدة الإسلام ولا زرع منهج أهل السنة والجماعة فيه فتتمكن الأفكار الباطلة من فؤاد الطالب ويصير الدين غريبًا عنه ويصير لذلك أهل الإصلاح غُرباء فِى هذا الزمن كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "بدأ الدين غريبًا وسيعود غريبًا فطوبى للغرباء"، فاحرص أخي المسلم على أن تكون مع ولدك من الغرباء ولا تضيعه فيصير غريبا عن الإسلام.
ففي هذا الحديث بشارة لمن يتمسك في هذا الزمن الذي فسدت الأمة فيه، بسُنّةِ الرسول أي شريعته، العقيدة من باب الأولى ثم الأحكام. فطوبى لِمن جعلهُ اللهُ مِن دُعاةِ سُنّةِ رسولِ اللهِ عقيدةً وعملًا، واتعظوا أيُّـها الناس واسمعوا وعوا، انظروا واذكروا، من عاش مات، ومن مات فات، وكلّ ما هو ءاتٍ ءات، أين الآباء والأجداد؟! وأين المريض والعوّاد؟! وأين الفراعنة الشداد؟! أين من بنى وشيّد، وزخرف ونجّد، وغرّه المال والولد؟! أين من طغى وبغى، وجمع فأوعى، وقال أنا ربّكم الأعلى؟! ألم يكونوا أكثر منكم أموالًا، وأطول منكم ءاجالًا؟!
قال الشاعر:
غدا تُوفّى النفوسُ ما كسبت ~ ويحصد الزُراعُ ما زرعوا
إن أحسنوا أحسنوا لأنفسِهِم ~ وإن أساؤوا فبِئس ما صنعوا
فاعمل لذلك اليوم وأمر بالمعروف وانه عن المنكر ولا تستوحش طرق الهدى لقلّة أهلِها ولا تغرنّك كثرة الهالكين وعليك بطريق الهدى وإن قلّ السالكون واجتنب طريق الضلالة وإن كثر الهالكون فطوبى للغرباء...فطوبى للغرباء..... فطوبى للغرباء.
ونحنُ بِحمدِ اللّهِ نُحيِى سُنّة رسُولِ اللّهِ نأمُرُ أنفُسنا وغيرنا بِالتّمسُّكِ بِما جاء بِهِ النّبِىُّ، ما أوجبهُ الرّسُولُ أوجبناهُ وما حرّمهُ الرّسُولُ على أُمّتِهِ حرّمناهُ وما رغّب فِيهِ النّبِىُّ أُمّتهُ مِن غيرِ إِيجابٍ عليهِمُ اعتبرناهُ كذلِك ولِلّهِ الحمدُ على ذلِك واللّهُ تعالى يُثبِّتُنا على هذا المنهجِ ويرزُقُنا الصّبر على من يُعادِينا بِالباطِلِ فلِلّهِ الحمدُ على ما ألهمنا من التّمسُّكِ بِسُنّتِهِ عليه السّلامُ والدّعوةِ إليها نسألُ الله تعالى أن يُؤيِّدنا ويُثبِّتنا على ذلك ويرحمنا برحمته إنه العزيز الكريم.
وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين
وكتب الراجي رحمة ربه
د. محمد عبد الجواد الصباغ
القسم : مقالات الشيخ محمد الصباغ - الزيارات : 2218 - التاريخ : 16/3/2023 - الكاتب : د. محمد عبد الجواد الصباغ