الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه الطيبين الطاهرين أما بعد...
فما معنى قول بعض العلماءِ:" لازمُ المذهبِ مذهبٌ" وقول بعضهم: " لازمُ المذهبِ ليسَ مذهبًا" وكيف يجمع بينهما وكيف خلط بعض الجهال بينهم.
ولكي نفهم هذا الأمر علينا معرفة أمور وهي ما هو المذهب؟وما معنى لازم المذهب؟ وما هو اللازم الخفي؟ وما هو اللازم البين؟ وهل إذا قال الشخص كلاما يؤآخذ بكل لوازمه؟
كثير من الناس يختلط عليهم هذا الأمر فبعض أهل الضلالِ يقولونَ :" ما يلزمُ من قولِ مسلمٍ أو من فعلهِ إن كان يؤدي إلى الكفرِ لا يكفُرُ عليهِ" ويستدلون على زعمهم بقولَ بعض العلماءِ :" لازم المذهبِ ليس بمذهبٍ".
ولبيان ذلك نشرع في بيان ما قدمنا فنقول:
أولا المذهب هو ما ذهب إليه المجتهد أو العالم أو الشخص من صريح كلامه فما صرح به يقال له مذهبه بناء على ما ظهر له من دلالات.
فمثاله أن الشافعي قال بوجوب التبيت في صيام الفرض بناء على أدلة ظهرت له وهو خلو أول النهار عن نية هي مفسدة له فقوله بوجوب التبيت في صيام الفرض هذا يقال له ما ذهب إليه وهو ما يسمى مذهبه.
وثانيا لازم المذهب هو ما ليس بصريح قوله لكنه يلزم من قوله أو ما كان مؤدى قوله وقد يكون خفيا غير واضح مبهما أو بينا واضحا جليا. وقد يكون في القطعيات وقد يكون في غيرها.
وقد يكون هذا اللازم ينفك عنه أو لا ينفك عنه ومع أن الأصل في اللازم عدم انفكاكه عن الملزوم لكنه يطلق عليه لازم من باب التجوز إذ اللازم في الحقيقة ما لا ينفك عن الملزوم. فما ينفك عنه في الحقيقة لا يقال له لازم إلا من باب التجوز وهو ما يسمى بالتابع أو الرديف فهذا التابع قد ينفك عنه أو يتخلف لفقد شرط أو وجود مانع وهو ما يعبر عنه بعض الفقهاء بلازم المذهب ويقولون لازم المذهب ليس بمذهب لجواز تخلف اللازم عن الملزوم أما اللوازم في الحقيقية وهي اللوازم العقلية فلا تتخلف عن ملزومها.
فعلى ما ذكرنا نعرف هنا نعرف الفرق بين ما ذهب إليه وبين ما التزمه وبعد هذا فهل يؤآخذ بلوازم كلامه فيقال له حينها يلزم من قولك كذا... فهنا منشأ الخبط والخلط لمن لم يفهم كلام العلماء ولم يفرق بين اللازم الخفي واللازم البين وبين ما هو لازم في الحقيقة وبين ما صورته صورة اللازم.
ولنضرب مثلا لكل منها ليتضح الفرق بينها فمن اللازم البين الواضح الجلي الذي لا ينفك عن ملزومه أن نقول مثلا وجود النهار يلزم منه طلوع الشمس فلو قال جاهل لا يلزم من اعترافي بوجود النهار طلوع الشمس لأن لازم المذهب ليس بمذهب لصار ضحكة لناظرين ولقال له الناس هذا جنون وهي من سفسطة التي هي انكار المحسوسات.
أما لو قيل مثلا الطوفان في الليل يلزم منه أن يكون الطائف خرج للسرقة فيقال له لا يلزم منه ذلك فقد يكون خرج للحراسة أو للتصدق خفية فهذا من اللازم الخفي الذي يقبل الانفكاك عن ملزومه فإن لم يصرح بأنه يلتزمه أو يعرض عليه فيلتزمه لا يؤآخذ بملزومه.
والفرق بين هذا والذي قبله أي بين اللازم الخفي واللازم البين أن اللازم البين يكون من اللوازم العقلية فيمتنع انفكاكه عنه وهو واضح لا ينكره إلا من ينكر المحسوسات ويكون هزأة للساخرين.
وبعد هذه المقدمة نشرع في بيان ما ضل به بعض ناس فزعموا أنه لا يكفر المرء بالتلفظ بكلمة الكفر ولو كان عالما بمعناها وقالها مختارًا ما لم يعتقد لوازمها ومنهم لا يُكفِّرون القائلين بالجهةِ في حقِّ اللهِ ولا يُثبِتون لهم التجسيم لمجرد أنهم يقولونَ نحنُ لسنا مُجسمة وكذلكَ منهم لا يُكفِّرونَ القائلينَ بأن كلامَ اللهِ الذي هو صفةُ ذاتهِ مخلوقٌ والعياذ بالله مما قالوا، كل هؤلاء ضلوا لأنهم فهموا قولَ بعض العلماءِ :" لازم المذهبِ ليس بمذهبٍ" على غير وجهها وأنزلوها غير منزلها.
ولتوضيح هذه المسألة نقول:
قال بعضُ العلماءِ:" لازمُ المذهبِ مذهبٌ" وقال بعضٌ: " لازمُ المذهبِ ليسَ مذهبًا" ، ومحل الخلافِ ما إذا لم يكن اللازمُ بيّنًا، أما إذا كان اللازمُ بيّنًا فهو مذهبٌ له جزمًا، ولتوضيح ذلك نقول أن كلام العلماء ينقسم لقسمين رئيسيين:
1. قال بعضُ العلماءِ:" لازمُ المذهبِ مذهبٌ" أي إذا كان اللازم بينا.
2. وقال بعضٌ: " لازمُ المذهبِ ليسَ مذهبًا" أي إذا كان اللازم غير بين.
ومثال على اللازم غير البين قول المعتزلة في رُؤْيَة أَهْلِ الْجَنَّةِ لِلهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بَعْدَ دُخُوْلِهِمُ الْجَنَّةَ فَإِنَّ أُنَاسًا فِيْ الْمَاضِيْ أَنْكَرُوْا هَذَا الْأَمْرَ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ التَّجْسِيْمُ وَالتَّشْبِيْهُ أَيْ ظَنَّوا أَنَّ إِثْبَاتَ رُؤْيَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ لِرَبَّهِمْ يَلْزَمُ مِنْهَا إِثْبَاتُ الْحَدِّ وَالْحَجْمِ للهِ فقالوا لا يصح أن يرى إلا من كان في جهة وله حد وحجم. فَلَمْ يُكَفِّرْهُمْ كَثِيْرٌ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ السُّنَّةِ بِذَلِكَ بَلْ فَسَّقُوْهُمْ لأنها بدعة اعتقادية فقد قالوا لا يصح أن يرى إلا ما هو جسم وجهة وله حد فنفوا الرؤيا وتأولوا الآيات والأحاديث التي وردت في ذلك فلَمْ يُكَفِّرْهُمْ كَثِيْرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ لِأَنَّ اللَّازِمَ غَيْرُ وَاضِحٍ غَيْرُ بَيِّنٍ همْ مَنَعُوْا الرُّؤْيَا حَتَّى لَا يُؤَدِّيْ إِلَى التَّشْبِيْهِ. هُمُ الْمُعْتَزِلَةُ يَلْزَمُ مِنْ قَوْلِهِمْ إِنْكَارُ وُجُوْدِ اللهِ لكن اللازم هنا غير بين أما نَحْنُ أَهْلُ السُّنَّةِ نَقُوْلُ كُلُّ مَوْجُوْدٍ يَصِحُّ أَنْ يُرَى. فنؤْمِنُ بِرُؤْيَةِ أهْلِ الْجَنَّةِ لِرَبِّهِمْ لِوُرُوْدِ الرِّوَايَاتِ بِهَا أَيْ لَا كَمَا يُرَى الْمَخْلُوْقُ.
وأما مثالٌ على اللازم البين قول المعتزلةِ " إن الله لا يُوصفُ بالعلمِ والسمعِ والبصرِ والقدرةِ والإرادةِ والتخليقِ والتكوينِ ونحوها من الصفات الذاتيةِ والفعليةِ " فقالوا: " عالمٌ لنفسِهِ، قادرٌ لنفسهِ لا بعلمٍ ولا قدرةٍ، فيكونُ مذهبُ المعتزلةِ في المعنى نفيُ العالِمِيّةِ والقادِرِيّةِ عن الله، ولا يُقال هنا " لازمُ المذهبِ ليسَ بمذهبٍ " أي لا يلزمُ من نَفْيِهِم اتصاف الله بالعلمِ نفيُ كونِهِ عالماً لأن هذا من اللازمِ البيِّن، لأنه لا يصحّ في العقلِ عالمٌ بلا علمٍ كما لا يصحُّ عالمٌ بلا معلومٍ، وكما لا يصحُّ ضاربٌ بلا ضربٍ ولا مضروبٍ.
فمن هنا يعرف معنى قول العلماءِ : " لازمُ المذهبِ مذهبٌ " أي أنه يلزمُ من قول المعتزلةِ عالمٌ لا بعلمٍ نفيُ للعالِمِيّةِ، أي أن قولَ :" إنهُ عالمٌ بلا علمٍ" معناهُ ليس بعالمٍ. فمذهبُهُم أن الله عالمٌ لا بعلمٍ يلزمُ منهُ نفيُ العالِمِيّةِ عن الله، هذا معنى " لازمُ المذهبِ مذهبٌ". فهذه من البدع الاعتقادية التي كفرهم العلماء عليها وإن قال المعتزلي أنا لا أقول أنه يلزم منه نفي الصفة أي لا ألتزم اللازم فهذا لا عبرة بنفيه للازم لأنه لازم بين.
وكذلك يعرف مما ذكرنا معنى قولُ بعضِ العلماءِ " لازمُ المذهبِ ليسَ بمذهبٍ" إذا لم يكن اللزومُ بيّنًا. ففي هذه الحالِ أي حالِ كونِ اللازمِ بيّنًا يكونُ مذهبًا على القولينِ أي عند الذينَ قالوا: " لازمُ المذهبِ ليسَ مذهبًا، وعند الذينَ قالوا لازمُ المذهبِ مذهبٌ"، فقول المعتزليّ " إن اللهَ قادرٌ بذاتهِ على الممكنات العقليةِ لا بقدرةٍ يلزمُ من ذلكَ نفيُ كونِهِ قادرٌ، وكذلكَ لازمُ قولهِ عالمٌ بذاتهِ لا بعلمٍ وهكذا من بابِ اللازمِ البيِّنِ.
وبمعنى ءاخر أن الذي يُحكمُ عليه بالكفرِ من كان الكفرُ صريحَ قولهِ، وكذا من كان لازِمَ قولِهِ وعُرِضَ عليهِ فالتزمه، أي عُرِضَ عليهِ اللازمُ فقبلهُ بأن قيل له: هذا يلزمُ منهُ كذا، تقْبَل ذلكَ؟ قال: أقبلُ، وكان ذلك اللازمُ كفرًا، أما من لم يلتزمْهُ وناضل عنهُ فإنه إن كان بينا لا ينفعه ذلك فهو كصريح قوله وأما إن لم يكن بينا فإنهُ لا يكونُ كافرًا كما مثلنا، ولو كانَ اللازمُ كفرًا، لأنه لم يلتزمه وليس بينا وينبغي حملُهُ على غير القطعيِّ كما بينا.
والحاصِلُ في مسألة اللُزومِ والالتزامِ أن من لزمَ من رأيِهِ كفرٌ لم يشعر بهِ وإذا وُقِفَ عليهِ أنكرَ اللُزومَ وكان في غير الضرورياتِ وكان اللُزومُ غيرَ بيِّنٍ فهو ليسَ بكافرٍ، وإن سلّم اللُزومَ وقالَ إن اللازمَ ليسَ بكُفرٍ وكان عندَ التحقيقِ كُفرًا فهو إذًا كافرٌ. وإن أنكرَ اللُزومَ وكان في الضرورياتِ أو كان اللُزومُ َ بيِّنا فهو كافر.
وبناءًا على هذه القواعد الشرعية فإن القائلينَ بالجهةِ يلزمُ من كلامِهِم التجسيمُ ولو أنكروا التزامهم الجسميةَ في حقِّ اللهِ، إذ إنّ كلَ من كان في جهةٍ لا بد أن يكونَ لهُ حجمٌ كبُرَ أو صغُرَ، فالجوهرُ الفردُ لهُ حيِّزٌ ومكانٌ وجهةٌ كما أن الجسمَ المركبَ له حيِّزٌ ومكانٌ وجهةٌ، إذ لا يُعقلُ جسمٌ لا في مكانٍ وجهةٍ، لذلكَ لازمُ مذهبِ القائلينَ بالجهةِ إثباتُ الجسميةِ حتى لو هم نفوْها عن أنفسِهِم.
فالشَّرعُ لم يرد فيهِ إطلاقُ الجهةِ والجسميةِ في حقِّ اللهِ، والعقلُ ينفي الجهةَ والجسميةَ في حقِّه تعالى، إذ إنهُ كما لا يُعقلُ وجودُ الجوهرِ والجسم لا في مكانٍ وجهةٍ لا يُعقلُ وجودُ ما ليسَ بجوهرٍ وجسمٍ في مكانٍ وجهةٍ، وقد ثبتَ شرعًا وعقلاً أن اللهَ ليسَ بجوهرٍ ولا جسمٍ، ثبتَ شرعًا وعقلاً أن اللهَ كانَ موجودًا قبلَ الجهاتِ وأنهُ لا يتغيّرُ وبعد أن خلقَ الجهاتِ ما زالَ موجودًا بلا جهةٍ، وكما قُلتُ سابقًا من مقتضياتِ الجهةِ إثباتُ الجسميّةِ، فلازمُ مذهبِ القائلينَ بالجهةِ إثباتُ الجسميّةِ حيثُ قامت البيِّنةُ على ذلكَ ولأنَّ نفيَ الجهةِ عن اللهِ من القطعيَّاتِ التي لا يغفلُ عنها صاحبُ العقلِ السليمِ فلا يُعذرُ القائلينَ بها لجهلهم.
لذا فإن القائلينَ بالجهةِ إن سلّموا اللُزومَ وقالوا إن اللازمَ ليسَ بكفْرٍ لا يُعتدُّ بكلامِهم لأنه عند التحقيقِ كُفرٌ، وإن لم يُسلِّموا اللُزومَ فلا عِبرةَ بكلامِهِم بل يكَفّرونَ، لأن نفيَ الجهةِ عن اللهِ من القطعيَّاتِ ومنَ الأمورِ المُجمعِ عليها المعلومةِ من الدينِ بالضّرورةِ والتي يستقِل العقلُ السليمُ بإدراكِها.
فاللازم البيّن لمذهب العاقل مذهبٌ له، وأما من يقول بملزوم مع نفيه للازمه البين فلا يعتبر هذا اللازم مذهباً له فلا عبرة بقوله لأنه يسقطه هذا النفي من مرتبة العقلاء إلى درك الأنعام فهو من السفسطة، وهذا هو التحقيق في لازم المذهب، فيدور أمر القائل بما يستلزم الكفر لزوماً بينا بين أن يكون كافراً لنفيه القطعي مع التزام اللازم أو حمارا لإنكاره ما اجتمعت العقلاء لثبوته فيكفر أيضا.
كما أنّ القائلينَ بأنّ كلامَ اللهِ الذي هو صفةُ ذاتهِ مخلوقٌ كفروا بلا شكٍّ لأنّ هذا اللُزومُ فيهِ بيِّنٌ، فلذا هو منَ الكُفرِ لأنَ قيامَ الحوادثِ بذاتِ اللهِ يؤدي إلى حدوثِ ذاتِهِ تعالى، ولو كان ذاتُهُ حادثًا لما كانَ خالقًا بل لاحتاج إلى من أوجدهُ وهذا كُلُّهُ محالٌ، فلازمُ مذهبِ القائلينَ بأنَّ كلامَ اللهِ الذي هو صِفةُ ذاتهِ مخلوقٌ قيامُ الحوادثِ بذاتِ اللهِ وهذا ظاهرُ البُطلانِ حتى لو هُمْ أنكروا اللُزومَ فلا عُذرَ لهم لأن اللُزومَ في هذه المسألةِ بيِّنٌ, فثبتَ بعد هذا البيان أن كِلا الفريقينِ الذينَ قالوا: " لازمُ المذهبِ مذهبٌ ، ولازمُ المذهبِ ليسَ بمذهبٍ" إذا لم يكن اللُزومُ بيِّنًا قد كفّروا من كانَ لازمُ مذهبِهِ الكُفْرِي بيِّنًا.
وقال الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني في كتاب [مناهل العرفان]: "وقد كفَّر العراقيُّ وغيره مُثبِتَ الجهة لله تعالى وهو واضح لأن معتقد الجهة لا يمكنه إلا أن يعتقد التحيز والجسمية ولا يتأتى غير هذا فإن سمعت منهم سوى ذلك فهو قول متناقض وكلامهم لا معنى له" انتهى. ولاحظوا قوله: وهو واضح لتعلموا أنه وجد اللازم بيِّنًا واضحًا فحكم عليهم بالكفر
وقال في معرض كلامه عن المتشابهات: "ولا ريب أن حقائقها تستلزم الحدوث وأعراض الحدوث كالجسمية والتجزؤ والحركة والانتقال لكنهم بعد أن يثبتوا تلك المتشابهات على حقائقها ينفون هذه اللوازم مع أن القول بثبوت الملزومات ونفي لوازمها تناقض لا يرضاه لنفسه عاقل فضلا عن طالب أو عالم فقولهم في مسألة الاستواء الآنفة إن الاستواء باق على حقيقته يفيد أنه الجلوس المعروف المستلزم للجسمية والتحيز وقولهم بعد ذلك ليس هذا الاستواء على ما نعرف يفيد أنه ليس الجلوس المعروف المستلزم للجسمية والتحيز فكأنهم يقولون: (إنه مستو غير مستو) و(مستقر فوق العرش غير مستقر) أو (متحيز غير متحيز) و(جسم غير جسم) أو (أن الاستواء على العرش ليس هو الاستواء على العرش) و(الاستقرار فوقه ليس هو الاستقرار فوقه) إلى غير ذلك من الإسفاف والتهافت" انتهى. يعني أن القول بالتجسيم لازم بين لا ينفك عن اعتقاد التحيز والمماثلة والعياذ بالله لذلك اعلم أخي القارئ أن وصف الله بالجسم لمن يعرف معنى الجسم كفر بلا خلاف ولو قال أنا لا ألتزم لوازم الجسم
وقال الشيخ محمد عليش المالكي في كتاب [منح الجليل]: "وسواء كفر بقول صريح في الكفر، كقوله: أكفر بالله أو برسول الله أو بالقرآن أو الإله اثنان أو ثلاثة أو المسيح ابن الله أو العزيز ابن الله أو بلفظ يقتضيه أي يستلزم اللفظ الكفر استلزاما بَيِّنًا كجحد مشروعية شىء مجمع عليه معلوم من الدين ضرورة، فإنه يستلزم تكذيب القرآن أو الرسول وكاعتقاد جسمية الله وتحيُّزه فإنَّه يستلزم حدوثه واحتياجه لمُحدِث" إلخ..الشيخ محمد عليش يؤكد هنا أن نسبة الجسم إلى الله يستلزم الكفر استلزاما بينا فكلامه واضح ونصه جلي في الدلالة على المسألة الصحيحة.
وقال الشيخ محمد الدسوقي في [حاشية الدسوقي على الشرح الكبير]: "قوله: (ويستلزم الخ..) أي وأمَّا قولهم: "لازم المذهب ليس بمذهب" فمحمول على اللَّازم الخفيِّ"انتهى. وهذا من أوضح ما يدلك يا أخي القارئ على تفصيل الحكم في اللازم فإن كان بيِّنًا فهو مذهب وإن كان خفيًّا فليس مذهبًا ما لم يلتزمه صاحبه فمعنى هذا الكلا أنك متى رأيت العلماء قالوا لازم المذهب ليس مذهبا فاعلم أنه يقصدون اللازم الخفي وليس اللازم البين.
وقال الشيخ محمد الخضر الشنقيطي في كتاب [إستحالة المعية بالذات وما يضاهيها من متشابه الصفات]: "وأما إن كان اللزوم بيِّنًا فهو كالقول بلا خلاف" انتهى ولاحظ قوله: (بلا خلاف) كذلك المعنى هنا أن من قال كلاما لازمه الكفر كأنه نطق بالكفر بلا خلاف يعني حكمه الكفر بلا خلاف.
وقال التقي السبكي رحمه الله: "ومَن أطلق القُعود وقال إنَّه لم يُرِدْ صفات الأجسام: قال شيئًا لم تشهد به اللغة فيكون باطلًا وهُو كالمُقِرِّ بالتَّجسيم المُنكر له" انتهى. فانظر كيف ألزم الإمام السبكي من قال بالقعود في حق الله وجعله مذهبا له، ولم يعذره بقوله (لم يرد صفات الأجسام) كذلك نحن نلزم المشبهة بالتجسيم ونجعله مذهبا لهم ولو قالوا بلا كيف ولا تمثيل ولا تشبيه. يعني طالما وصف الله بالقعود ولو قال أنا لا ألتزم لوازم القعود في حق الله كما يفعل بعض المشبهة فلا يكون معذورا ولا يزول عنه حكم الكفر فمن لم يُكفِّر مَن قال عن الله جسم - وهو عالم بالمعنى - لأنه قال: لا ألتزم لوازم الجسم كيف يحكم بالكفر على من قال يتعب لا كالناس! وينام لا كالناس! هذا شتم لله تعالى فيكون كفرا باتفاق العلماء.
وجاء في المنهاج القويم على المقدمة الحضرمية في الفقه الشافعي لعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر بافضل الحضرمي: "واعلم أن القرافي وغيره حكوا عن الشافعي ومالك وأحمد وأبي حنيفة رضي الله عنهم القول بكفر القائلين بالجهة والتجسيم وهم حقيقون بذلك " ومثل ذلك نقل ملا علي القاري في كتابه [المرقاة في شرح المشكاة].وهذا القدر من الشرح كاف في بيان أن لازم المذهب إذا كان واضحا فهو مذهب وأن من قال عن الله إنه جسم وهو عالم بالمعنى فقد كفر بالله ولو قال لا ألتزم لوازمه كما أن من يعرف معنى كلمة الابن وقال: المسيح ابن الله كذلك يكفر ولو قال لا نلتزم في بنوة عيسى لله ما نلتزمه في غيرها!
فثبت أننا وافقنا علماءَ الأُمَّة وأنهم خالفوهم والعياذ بالله يعني يخالفون هم علماء الأمة ونوافق نحن العلماء ثم يسبقون إلى اتهامنا بأننا خالفنا العلماء وانفردنا بأقوال غريبة وما الغريب إلا ما أتوا من تكذيب العلماء ومخالفتهم ونقل صاحب الخصال من الحنابلة عن أحمد بن حنبل أنه قال: من قال جسم لا كالأجسام كفر ويؤكد هذا: حكايةُ الإجماع التي نقلها كثيرون في تكفير المجسم والشافعي من علماء الامة فهو داخل فيمن أجمع على كفر المجسمة بلا شك ويؤكده كذلك أن الشافعي رضي الله عنه كفَّر حفصًا الفرد باللازم أي بلازم قوله لأنه كان لازمًا بيِّنًا والعلماء نقلوا قول الشافعي في تكفير المجسمة في محل الاحتجاج فهذا يعني انه ثابت عندهم فالقاضي حسين نقل أن الشافعي نصَّ على كفر من قال الله جالس على العرش ونقل ابن المعلم القرشي في نجم المهتدي نحوه ونقل ابن جماعة تكفير المجسمة في [شرح التنبيه] عن نَصِّ الشافعي (يعني من كلامه بحروفه) وحكاه كذلك السيوطي في الأشباه والنظائر ولذلك أصلا علماء الإسلام ألزموا المجسمة بمقالاتهم لأنهم عدُّوهم واعين بما يتلفظون.
قال الكوثري في معرض كلامه عن بعض مقالات رؤوس المجسمة: "فلا محيص في عدِّهم واعين لما نطقوا به، فتعيين إلزامهم بما يترتب على تلك التَّقوُّلات في نظر أهل البرهان الصحيح" انتهى. بعد هذا لا يُلتفت إلى أهل الفتنة الذين يزعمون أن الشافعي ما كفَّر المجسمة أو أنه ما ثبت أنه كان يكفِّرهم فالمجسم الذي ينسب الجهة والمكان في حق الله يكفر ولا يفيده إنكاره كما قال الإمام السبكي رحمه الله: "ومن أطلق القعود وقال إنه لم يرد صفات الأجسام قال شيئا لم تشهد به اللغة فيكون باطلا وهو كالمقر بالتجسيم المنكر له" انتهى. السبكي مات في أواسط القرن الثامن هجري كان قاضي قضاة المذاهب الأربعة لكل مذهب قاض وهو فوق الأربعة يقضي وكان من أكابر الشافعية فهل كان يحكم بكفر المجسمة خلافا لقول إمام مذهبه!
وقال الكشميري في [إكفار الملحدين]: "والحاصل في مسئلة اللزوم والالتزام: أن مَن لَزِمَ مِن رأيه كُفر لم يشعر به، وإذَا وقف عليه أنكر اللزوم وكان في غير الضروريات وكان اللزوم غير بَيِّنٍ فهو ليس بكافر –أي إن لم يلتزمه–" انتهى. وكلامه صريح أنه يتكلم في اللازم الخفي ليس في اللازم البيِّن. أما إن كان اللازم بيِّنًا فلا يكون مقبولا إلا أن يقال: لازم المذهب مذهب
وللتقريب الذي يعرف معنى الجسم وهو يعرف أن الجسم يعني ما كان له أجزاء ثم قال الله جسم فهذا لا ينفك عن الكفر لأنه من الواضح وضوحا شديدا أنه يقول إن الله له أجزاء فلا يُتوقَّف في كفر من قال عن الله جسم طالما يعرف معنى الجسم فالخلاصة أن كل كتاب أو موضع ذُكِرَ فيه أن المُجسِّم مختلف في تكفيره فهذا غير صحيح وهو تعبير ظاهره باطل فقد قال شيخ جامع الزيتونة سيدي إبراهيم المارغني التونسي في كتابه [طالع البشرى على العقيدة الصغرى]: "ويسمى الاعتقاد الفاسد كاعتقاد قدم العالم أو تعدد الاله أو أن الله تعالى جسم وصاحب هذا الاعتقاد مجمع على كفره" انتهى. لاحظوا كيف دلَّ أن الإجماع منعقد على كفر من نسب الجسم إلى الله سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون لتعلموا أن الحكم بالكفر على المجسمة إجماعيٌّ أي بإجماع علماء أمة محمد بإجماع المعتبرين من العلماء وما خالف الإجماع فهو ضلال بلا شك لأن أمتنا معصومة أن تجتمع على ضلالة والحمدلله وقال الإمام تقي الدين الحصني الشافعي رحمه الله في كتابه [دفع شبه من شبّه وتمرّد]: "مَن شبَّهه أو كيَّفه طغى وكفر. هذا مذهب أهل الحق والسُّنَّة وإنَّ دليلهم لَجَلِيٌّ واضح.. مَن شبَّهه أو مثَّل أو جسَّم فهُو مع السَّامرة واليهود ومِن حزبهم" انتهى. فهذا نص أن من جسَّم الله لا يكون مسلما بالمرة وقال الإمام الشافعي: "المُجسِّم كافر" ذكره الحافظ السيوطي في [الأشباه والنظائر].
ونُقِلَ عن الشافعي غير هذا النقل كذلك في تكفير المجسمة. وقال الإمام أحمد: "من قال الله جسم لا كالأجسام كفر" رواه عن الإمام أحمد أبو محمد البغدادي صاحب الخصال من الحنابلةكما رواه عن أبي محمد الحافظ الفقيه الزركشي في كتابه [تشنيف المسامع]. وقال القاضي عبد الوهاب بن علي بن نصر البغدادي المالكي: "ولا يجوز أن يثبت له كيفية لأن الشرع لم يرد بذلك، ولا أخبر النبي عليه السلام فيه بشىء، ولا سألته الصحابة عنه، ولأن ذلك يرجع إلى التنقل والتحول وإشغال الحيّز والافتقار إلى الأماكن وذلك يؤول إلى التجسيم وإلى قِدم الأجسام وهذا كفر عند كافة أهل الإسلام" انتهى. ولاحظوا قوله: وهذا كفر عند كافة أهل الإسلام لتحسموا أن الأمر ليس مثار خلاف لا بين المتقدمين ولا بين المتأخرين من العلماء فلاحظوا كم مرة ورد معنا فيما ننقل عن العلماء أن نسبة الله إلى الجسم كفر عن كافة العلماء لتتيقنوا أن المسألة إجماعية لا خلاف فيها وليس كما توهم بعض أهل الزيغ لأن الإجماع منعقد على تكفير المجسمة وأنه محمول على مَن يفهم مدلول لفظ الجسم لا على من لا يعرف فالتفصيل ليس في (هل كفر أم لم يكفر) لا أنما المسألة: إن كان يعرف معنى الجسم فلا تفصيل في الحكم بكفره وإن كان لا يعرف معنى الجسم فهنا التفصيل فهنا يُنظر هل يعتقد التشبيه أم لا. ولا يقول بخلاف ما ذكرنا عالِم معتبر من السلف أو الخلف ومما يكفر به الإنسان أن يصف الله تعالى بأنه جسم ولأن الجسم يستلزم أن يكون محتاجا للمكان. والمحتاج لا يكون إلهًا بل حادثا مخلوقا وهذا مستحيل في حق الله تعالى فمن يكون جسما يكون ذا أبعاض وأجزاء تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا فنسبة الله إلى الجسمية تشبيه لله بالخلق وهو كفر بلا شك إلا في حالة لم يعرف المتكلم معنى الجسم فإذا جهل المتلفظ معنى الجسم وظن أن معناه الموجود فهنا لا يُكفَّر بل يُعلَّم الصواب
واحفظوا كلام الشيخ محمد الدسوقي المالكي في [حاشيته على الكبير] فهو تختصر كل الإشكال الذي غرق فيه الجهلة المتصولحة فقد قول الشيخ محمد الدسوقي رحمه الله: <وأما قولهم: لازم المذهب ليس بمذهب فمحمول على اللازم الخفي> انتهى. وبعد كل هذا الشرح أو قبله اعلم أن العبرة بالدليل وما تمسك به هؤلاء لا دليل عليه من الشرع
ويناسب هنا ايراد ما نقله الزبيدي في الاتحاف عن تقي الدين السبكي قال:"والقعود ومعناه مفهوم من صفات الأجسام لا يعقل منه في اللغة غير ذلك والله تعالى منزه عنها ومن أطلق القعود وقال إنه لم يرد صفات الأجسام قال شيئا لم تشهد له به اللغة فيكون باطلا وهو كالمقر بالتجسيم المنكر له فيؤاخذ بإقراره ولا يفيد إنكاره".
وجاء في حاشية العطار على شرح المحلي على جمع الجوامع:"قولهم: لازم المذهب ليس بمذهب، مقيد بما إذا لم يكن اللازم لازما بينا".
وقد قال في حاشية العدوي على شرح مختصر خليل "(قَوْلُهُ: إلَّا أَنْ يُقَالَ: لَازِمُ الْمَذْهَبِ لَيْسَ بِمَذْهَبٍ) ظَاهِرُهُ وَلَوْ بَيَّنَّا مَعَ أَنَّ اللَّازِمَ إذَا كَانَ بَيِّنًا يَكُونُ كُفْرًا، وَلَا يَخْفَى أَنَّ اللَّازِمَ هُنَا بَيِّنٌ"
ومن أراد النظرَ في بيانِ إلزامِ العلماءِ المبتدعةَ مذاهِبَهُم الكُفْريّةَ وتكفيرهِم عليها فلينظر في كتابِ : " الأسماءِ والصِفاتِ " لأبي منصورٍ البغدادي ق- 35 ق- 52.وفي كتابِ : " القلائِدِ في شرحِ العقائِدِ " ص-200 – 210 للإمام النسفي. وفي كتابِ :" ذخائِرِ القصرِ" ص-32 للحافظ شمس الدين بن طولون.وفي كتاب: " إكفارِ المُلحدينَ" ص-17- 19 -21-22 – 72-123- 124-126-128 للمُحدِث محمد أنور شاه الكشميري.وفي كتاب: " نجم المهتدي" للإمام ابن المعلم القرشي ق 268- 287.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
|